أمريكا وسوريا الجديدة- بين دعم مشروط وتحديات داخلية ورؤية مستقبلية.

المؤلف: عمر كوش09.10.2025
أمريكا وسوريا الجديدة- بين دعم مشروط وتحديات داخلية ورؤية مستقبلية.

يبدو أن إدارة الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، لم تحسم بعد بشكل قاطع رؤيتها تجاه التحولات الجارية في سوريا عقب انهيار نظام الأسد السابق في الثامن من ديسمبر/كانون الأول المنصرم. فعلى عكس التوقعات، لم تستأنف هذه الإدارة سياسة الانفتاح التدريجي على القيادة الجديدة في سوريا، تلك السياسة التي بدأتها الإدارة السابقة برئاسة جو بايدن، والتي تجسدت في سلسلة من الإجراءات الملموسة.

فقد كان لافتًا الانتباه ذلك الترحيب السريع من قبل الولايات المتحدة بسقوط نظام الأسد المنهار، حيث عبّر الرئيس الأميركي آنذاك، جو بايدن، عن سعادته لهذا التحول الجذري. وعقب ذلك، أصدر وزير الخارجية الأميركي بيانًا رسميًا يؤكد فيه التزام الولايات المتحدة بدعم كامل مسيرة الانتقال السياسي بقيادة سورية جديدة ومزدهرة.

كما تضمّن البيان شروطًا واضحة تحدد إطار تعامل واشنطن مع الإدارة السورية الجديدة، مركزًا على ضرورة احترام حقوق الأقليات المتنوعة، وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية إلى جميع المحتاجين دون تمييز، ومنع استخدام الأراضي السورية كمنصة للإرهاب أو كبؤرة لتهديد دول الجوار، فضلاً عن ضمان تأمين وتدمير كافة مخزونات الأسلحة الكيماوية والبيولوجية بطريقة آمنة وشفافة.

وفي سياق متصل بدعم التغيير الإيجابي في سوريا، دعت وزارة الخارجية الأميركية كافة الدول إلى الامتناع عن أي تدخل أجنبي في الشؤون الداخلية لسوريا، معربة عن استعداد واشنطن "لتقديم الدعم الكامل والمناسب لكافة الشرائح والمكونات الانتخابية السورية المختلفة".

وفي خطوة تعكس هذا التوجه، أوفدت إدارة بايدن مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، باربرا ليف، التي عقدت لقاءً هامًا مع أحمد الشرع في العشرين من ديسمبر/كانون الأول 2024. وتزامن هذا اللقاء مع قرار واشنطن بإلغاء المكافأة المالية الضخمة التي كانت معروضة لقاء القبض على الشرع، والتي قُدرت بعشرة ملايين دولار، وذلك بعد أن أكدت واشنطن أنه أظهر صورة "رجل دولة عملي وواقعي".

ثم اتخذت واشنطن حزمة من الإجراءات والاستثناءات المتعلقة بالعقوبات المفروضة على سوريا، كان أبرزها وأولها قرار وزارة الخزانة الأميركية في السادس من يناير/كانون الثاني الماضي، والذي قضى برفع جزئي للعقوبات المفروضة على سوريا لمدة ستة أشهر، وذلك بهدف "المساعدة في ضمان عدم إعاقة العقوبات للخدمات الأساسية واستمرارية وظائف الحكم في جميع أنحاء سوريا، بما في ذلك توفير الكهرباء والطاقة والمياه والصرف الصحي الضروري".

لم تتخذ الإدارة الأميركية السابقة هذه المواقف الإيجابية بشكل عشوائي، بل لأن سقوط نظام الأسد السابق قد حقق لها هدفًا استراتيجيًا كانت تسعى إليه جاهدة، وهو تقليص نفوذ النظام الإيراني في سوريا. فإزاحة الأسد من السلطة قضت على النفوذ الإيراني بشكل كامل في سوريا، وقطعت حلقة الوصل بين طهران والضاحية الجنوبية في بيروت، ولم تعد سوريا ممرًا آمنًا للأسلحة الإيرانية المتجهة إلى حزب الله اللبناني، مما يجعل انفتاح الولايات المتحدة على الإدارة السورية الجديدة أمرًا منطقيًا وطبيعيًا.

في المقابل، بدأت تظهر مؤشرات متباينة حول وجهة نظر الإدارة الأميركية الحالية تجاه الإدارة الجديدة في سوريا. فهناك شخصيات بارزة في الكونغرس الأميركي، من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، تطالب بتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وخاصة تلك العقوبات القطاعية التي تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين.

بينما أبدى وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، موقفًا أكثر تحفظًا، حيث صرح بأن "السلطة أصبحت مركزة في يد شخص واحد، وهذا أمر غير صحي". وأكد أن الولايات المتحدة تراقب عن كثب الوضع في سوريا، ولن تتسرع في رفع العقوبات في المستقبل القريب.

كما أصدر روبيو بيانًا أدان فيه "إرهابيين إسلاميين متطرفين، من بينهم متشددون أجانب، قاموا بقتل مدنيين في غرب سوريا"، مطالبًا السلطات المؤقتة في سوريا بمحاسبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم بحق الأقليات الدينية والعرقية في سوريا.

وفي السياق ذاته، أكدت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأميركية، تامي بروس، أن واشنطن لا تزال تراقب عن كثب تصرفات السلطات الجديدة والخطوات التي تتخذها، وأنها ستحدد سياستها المستقبلية بناءً على الإجراءات التي ستتخذها السلطات المؤقتة في عدد من القضايا الحساسة. كما جددت دعوتها إلى تشكيل حكومة شاملة بقيادة مدنية في سوريا.

أما مبعوث الرئيس ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، فقد ربط الموقف الأميركي تجاه سوريا بمسألة التطبيع الإسرائيلي مع كل من لبنان وسوريا. هذا الربط يعد لافتًا وخطيرًا، لأنه يكشف عن جوهر السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، والتي تعطي الأولوية المطلقة لمصالح إسرائيل وأمنها. كما يشير إلى أن هاجس أمن إسرائيل يمثل أولوية قصوى بالنسبة لإدارة ترامب، وأن هذه الإدارة قد تكون مستعدة لمساومة السلطات السورية المؤقتة من خلال مقايضة تقوم على التطبيع مع إسرائيل وإبرام اتفاقية سلام مجحفة مقابل رفع تدريجي للعقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة على سوريا.

لذلك، ليس من قبيل الصدفة أن يركز ويتكوف على ضرورة ضمان أمن إسرائيل، لأنه يعكس ما تريده الولايات المتحدة بالفعل من السلطات السورية الجديدة، بعيدًا عن الشروط المعلنة والادعاءات التي تستخدم لتغطية أهدافها الحقيقية. فالأمر يتعلق بتقديم ضمانات قوية لأمن إسرائيل أولاً وقبل كل شيء، وبما يؤدي إلى تجريد سوريا من قدرتها على التحول إلى قوة عسكرية مؤثرة في المستقبل، وهو ما تسعى إليه إسرائيل من خلال عملياتها العسكرية العدوانية المستمرة منذ سقوط نظام الأسد السابق، سواء عبر قصف مواقع عسكرية تابعة للجيش السوري السابق أو عبر التوغلات المتكررة واحتلال مناطق عازلة.

الجدير بالذكر أن الاتفاق الذي تم توقيعه مؤخرًا بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، قد تم بوساطة أميركية شبه علنية، حيث لعب قادة عسكريون أميركيون دورًا فعالًا في إقناع عبدي بالقبول بدمج كافة المؤسسات العسكرية والمدنية في مناطق شرق الفرات ضمن الدولة السورية، بما في ذلك المعابر الحدودية وحقول النفط والغاز.

وهذا يعكس وجود تيار قوي داخل الإدارة الأميركية يدفع باتجاه الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وسيادة الدولة السورية الجديدة على كامل أراضيها، بما يدعم وحدتها واستقرارها، ومنح الولايات المتحدة دورًا مهمًا في تشكيل مستقبلها، وذلك في ظل التكهنات المتزايدة حول استعداد الإدارة الأميركية لسحب قواتها من سوريا.

وبالتالي، يرى هذا التيار داخل الإدارة الأميركية أن أي زعزعة لاستقرار سوريا الجديدة في الوقت الراهن قد تحمل في طياتها خطر عودة النفوذ الإيراني بشكل أو بآخر، وهو ما يسعى صناع القرار في واشنطن لتجنبه بكل السبل، من خلال تبني سياسة تدعم الاستقرار، ولكن بشروط صارمة تهدف إلى توجيه عملية الانتقال في سوريا بشكل يختلف جذريًا عن ممارسات النظام السابق القائم على القمع ومركزة السلطة، وبما يساهم في إشراك مختلف المكونات الاجتماعية السورية في العملية السياسية الانتقالية.

يبقى السؤال الأهم بالنسبة للشعب السوري هو مصير العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، والتي تعيق بشدة كافة الجهود الرامية إلى تحسين الظروف المعيشية للمواطنين السوريين، وتعطّل جهود التعافي المبكر، فضلاً عن إعاقتها لتدفق الاستثمارات اللازمة للبدء في إعادة إعمار ما دمره نظام الأسد السابق.

ويبدو أن البيت الأبيض قد يتجه نحو انفتاح أوسع في العلاقة مع السلطات السورية الانتقالية، ومن المتوقع أن يشمل ذلك تخفيفًا تدريجيًا للعقوبات الأميركية. إلا أن الشروط الأميركية المعلنة لرفع العقوبات تتضمن تدمير أي مخزونات متبقية من الأسلحة الكيماوية، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وعدم تعيين مقاتلين أجانب في مناصب عسكرية قيادية، وذلك في ضوء تعيينات سابقة أثارت قلقًا دوليًا، وشملت تعيين مقاتلين إيغور وأردنيين وأتراك في وزارة الدفاع السورية، بالإضافة إلى تعيين جهة اتصال سورية لمساعدة الولايات المتحدة في جهودها للعثور على الصحفي الأميركي أوستن تايس، المفقود في سوريا منذ أكثر من عقد من الزمن.

المشكلة لا تكمن في الشروط الأميركية المعلنة، ولا حتى الأوروبية، بل في إمكانية استخدامها كأداة ابتزاز للسلطة الجديدة، وليس فقط للتأثير على مسار العملية الانتقالية.

وبالتالي، فإن ذلك يزيد من حجم التحديات التي تواجه الإدارة السورية الجديدة، خاصة وأن هذه الإدارة، على الرغم من أنها أرسلت العديد من الإشارات الإيجابية والمطمئنة للداخل السوري والخارج على حد سواء، وقدمت صورة مغايرة للنماذج الإسلامية المتشددة، إلا أنها لا تزال ترتكب بعض الأخطاء. فأغلب مؤسسات الدولة الناشئة لا تزال تدار من قبل فئة واحدة، وقد ساهمت أحداث الساحل والانتهاكات التي وقعت في زيادة الارتباك وفقدان الثقة بين مختلف المكونات الدينية والمذهبية السورية.

كما أن الإعلان الدستوري قد منح صلاحيات مطلقة للرئيس، وهو ما قوبل بانتقادات واسعة النطاق على الصعيدين الداخلي والخارجي. وبالتالي، فإن المطلوب سوريًا هو تحصين الوضع الداخلي وتقوية الجبهة الداخلية.

لا شك أن المواقف الأميركية تجاه سوريا الجديدة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمواقف الإقليمية والدولية، وخاصة المواقف الأوروبية والتفاهمات الأميركية الروسية، خاصة وأن سوريا تحتل مكانة بارزة في الاتصالات الأميركية الروسية التي جرت مؤخرًا.

ويبدو أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد اطلع على التوجه الذي من المتوقع أن تتبناه إدارة الرئيس ترامب قريبًا فيما يتعلق بسوريا، وربما بناءً على ذلك قام بإرسال رسالة إلى الرئيس السوري، أحمد الشرع، في العشرين من مارس/آذار الجاري، يعرب فيها عن استعداده للانفتاح بشكل أكبر على السلطات السورية الجديدة، وبما يتماشى مع الرؤية الأميركية الروسية المشتركة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة